الإنسان السوي ذو العقل الراجح، لا يمكنه بحالٍ التصديق بأن الله سبحانه وتعالى «فوَّض» عنه إنساناً في الأرض، يخلفه بالأمر والنهي وشؤون الدنيا والآخرة وما بينهما، ويندرج في قائمة «التفويض الرباني» هذا، أناس كثر قدماء ومعاصرون، أهم القدماء العرب أبو جعفر المنصور العباسي ( 714 م) في العراق، باني بغداد، ومن المعاصرين غير العرب ولي الفقيه علي خامنئي (1980 م) في إيران، والمتأمل لسيرة الاثنين يجد تشابهاً حد التماثل. وتفاصيل ذلك رغم أهميتها، هي ليست هدف مقالنا، بل موضوعنا هو العرب في فهمهم السياسة والتخبط المستمر في الحكم بين مناهج السماء ومدارس الأرض. كان ليُطربني الشاعر العربي ثعلب فيما قال لولا أن الحقيقة التاريخية جاءت خلافاً لقوله. أنشد ثعلب قائلاً: «سادةٌ قادةٌ لكل جميعٍ - ساسةٌ للرجالِ يوم القتالِ» ويعني العرب تحديداً. لكن على غير المتوقع جاء عربي آخر متخصصاً في شؤون العرب وتاريخهم، وكتب أول نظرية عربية في علم الاجتماع، هو ابن خلدون الذي كتب بشيء من المبالغة «أن العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلك» أي الحكم، هذا التناقض صادم طبعاً لكنه يبدو سليماً، فللناس زوايا نظر مختلفة إلى الموضوع الواحد، لو سألنا ابن خلدون لماذا القسوة على قومك ؟ لأجاب «بسبب بداوتهم وسكنهم القفر واعتيادهم الشظف وخشونة العيش، ما جعلهم يستغنون عن غيرهم، ويصعب انقياد بعضهم لبعض». على الرغم من أن تعميم ابن خلدون قد يُنقص من قيمة نتائجه، إلاَّ أنه ذهبَ في كلامهِ إلى حافة الخطر، حتى وإن كان هو من هو، صاحب تجربة اجتماعية بحثية عميقة لم يكتشفها إلاَّ قلة ممن درسوه، وتحديداً مؤلفه «المقدمة» في علم الاجتماع، ابن خلدون بتقديري المتواضع، هو الذي أعطى سنداً أو صكاً مكتوباً اعتمده بعض الحكام العرب وغير العرب ليتحولوا إلى «ديكتاتوريات» أشبه ما تكون بالفالج يصعب علاجها إلا بموت البشر على مقصلة الحرية. فما الذي فعله بنا ابن خلدون ليضعنا في قعر الهاوية؟ كتب قائلاً: إن العرب لم يتغيروا إلاَّ بالدين الذي انقذهم من جهلهم وجعلهم أمة مختلفة. وكلام كهذا يبدو معقولاً قد يوافقه عليه كثير منا، لكن السُلَّم الذي صعد عليه الجلادون في التاريخ أيضاً كان مصدره ابن خلدون الذي في مسألة القيادة السياسية «لا تحصل لهم (القيادة) إلاَّ بصبغة دينية من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة»، أي على الأغلبية. وهنا مربط الفرس كما يقال والسقطة الاستراتيجية، رغم كل الأصوات المرتفعة والمتزايدة في كل أنحاء العالم المطالبة بفصل الدين عن الدولة لتستقيم شؤوننا في الأرض. دعنا نتأمل الحاكمية السياسية لدى ابن خلدون ثم نرى ما «فرخته» لنا تاريخياً عرباً وعجماً، أمثال الحاكم بأمره أبوجعفر، وولي الفقيه خامنئي، لنقرأ بعضاً مما جاء في خطبة أبو جعفر: (أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسّمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم، فتحني، وإذا شاء أن يقفلني اقفلني؛ فارغبوا إلى الله، أيها الناس، وسلوهُ في هذا اليوم الشريف، الذي وهب لكم فيه من فضله، ما أعلمَكم به في كتابه، إذ يقول تبارك وتعالى: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي..). وعندها بدأت نظرية التفويض الإلهي وصناعة الديكتاتور السماوي. محمد حسن الحربي* *إعلامي وكاتب صحفي